خبر

أعرابيات غامضات تركن بصماتهن برواية اللغة العربية

تمتلئ كتب اللغة العربية بمصادر تحيل الاقتباس أو الاستشهاد إلى فلان الأعرابي، أو أعرابي من البادية، ويحتج بقول الواحد منهم، لإثبات نقل أو وجهة نظر في تصريف واشتقاق أو مسألة نحوية أو تأكيد بيت شعري. إلا أن هؤلاء الأعراب الرُّواة، تعرّضوا لشبه نسيان، فيما ظفر الناقل عنهم، بشهرة واسعة، لم تصب أيا منهم.

وكان الأعراب الفصحاء مصدراً من مصادر اللغويين الكبار، على اختلاف أزمنتهم. وكان أقدم معجمات العربية، كتاب العين، للفراهيدي، أحد أهم الكتب التي روت عن أعرابي وهو أبو الدّقيش القناني الغنوي، ويقال إن القناني في اسمه، جاء من (قنان) اسم جبل بأعالي نجْد. وعلى الرغم من كثرة ما نسبه الفراهيدي، للأعرابي الدقيش هذا، وتتابع النقل منه، على يد لغويين كبار، أحصى الدكتور عبد العزيز ياسين عبد الله في بحثه المنشور عام 2004 بعنوان (مرويات أبي الدقيش اللغوية في كتاب العين)، 48 استشهاداً للفراهيدي من أبي الدقيش، إلا أن الأخير بقي غامضاً إلى الدرجة التي يصعب فيها على المصنّفين الإحاطة بكامل اسمه ونسبه، فظل مغموراً مثله كأغلب الفصحاء الأعراب الذين كانوا من مصادر اللغويين العرب الذين حصدوا شهرة واسعة على مر الأزمان.

أعرابيات راوِيات

وأبو الدّقيش المذكور، واحد من عدد كبير من الأعراب الفصحاء الذين ظلوا مغمورين لم يرشح عنهم إلا بضع يسير من البيانات الشخصية، كأبي طفيلة وأبي البيداء وأبي خيرة وأبي مهدية وشجاع وزائدة وعرام ومزاحم، وجميعهم ذكروا بألقابهم تلك مع إضافات هنا أو هناك، لم تساهم بتوضيح صورهم وبياناتهم، في نهاية الأمر، قياساً بالناقل عنهم الذي أصبح في ما بعد، من أئمة اللغة!

وما وقع على الأعرابيين الرواة، وقع على الأعرابيات، أيضاً. إذ تحفل مصنّفات بأسماء راوِيات أعرابيات، ساهمن براوية اللغة العربية، في أزمان مختلفة، أحصى الدكتور عبد الحميد الشلقاني، تسعاً منهن، في كتابه الذي صدر عام 1975، تحت عنوان (الأعراب الرواة).

وأفرد الشلقاني باباً في كتابه الموضوع أصلا، للبحث في الأعراب الرواة الذين يتم تناقل أسمائهم في مصنفات العربية، بكثرة، عن الأعرابيات اللاتي عملن في رواية اللغة العربية، وحدد منهن تسع نساء، مع العلم بأن اشتغال العربيات برواية اللغة العربية، موضوع مختلف عليه وقيل فيه الكثير نظراً لاشتهار الرجال بذلك العلم، خاصة ون أيا من الأعرابيات، لم تحقق شهرة تزيد عن شهرة الرجل، في هذا المضمار، إلا أنها أصيبت بالإهمال الذي أصاب الرواة الأعراب، على الرغم من أدوارهم بالغة الأهمية في حفظ العربية.

ويلحظ المؤلف، أثر الإهمال الذي ضرب أسماء الأعرابيات اللغويات، فمرة تذكر الواحدة منهن في بلد، ثم في آخر، أو يشار إليها في زمن، ثم يشار إليها في زمن آخر قد يكون الفارق بينهما أكثر من قرن من الزمان، من مثل ما حلّ بأُم الهيثم التي باتت تتنقل بين القرون!

أُمّ الهيثم

سيدة طعنت في السن، وكانت من الأهمية بمكان، أن يسأل عنها اللغوي النحوي الكبير أبو عبيدة معمر بن المثنى (124-210) للهجرة، مع اختلاف بزمن ولادته الذي يحدده بعض المصنفين بتاريخ 112 للهجرة، وهو من المعمّرين.

وورد اسم أم الهيثم في بعض المصنفات العربية الرفيعة كمعجم مقاييس اللغة لابن فارس اللغوي الكبير المتوفى سنة 395 للهجرة. ولدى الاقتباس نقلا منها، يقول ابن فارس: "وقالت أم الهيثم!".

ومما ينقل عنها لدى سؤالها مسألة في اللغة: "أَوَللناس كلامان؟ والله ما كلّمتكم إلا بالعربي الفصيح". وكان إذا نقل عنها شيء في اللغة ولم يرد عند غيرها، يقال: "لم يُعرف إلا من أم الهيثم". وكانت تُسأل عن كلام العرب الذي تبدل فيه الجِيمُ ياءً، فتحتج بشِعر يثبت هذا الإبدال. وأم الهيثم، أطلق على أعرابيتين ترويان اللغة العربية، وأم الهيثم الثانية، يشار إليها بـ"صاحبة المبرّد"، أما الأولى فهي من بني منقر.

أم الهيثم الثانية

ويشار إليها بصاحبة المبرّد محمد بن يزيد، والمتوفى سنة 285 للهجرة، مؤلف الكامل في اللغة والأدب. وكان يقول عنها: "كانت أم الهيثم من أنصح من رأيت". ويذكر مصطفى صادق الرافعي في مصنفه الكبير (تاريخ آداب العرب) نبذة عن الأعرابيات الراوِيات، فيقول: "ومن أشهر الأعرابيات اللواتي أخذ الرواة عنهن وهنّ قليلات: غنية أم الهيثم الكلابية، وكانت راوية أهل الكوفة، وغنية أم الحمارس". ليكون اسم (أم الهيثم) مدار تضارب في أكثر من مصنف، كدلالة على الإهمال الذي لحق بأعرابيي اللغة، خاصة من النساء.

أم البهلول، قريبة الأسدية

وهي من الأعرابيات المنفردات بوضع مصنف لغوي باسمها، ونسب إليها كتاب (النوادر) وكتاب (المصادر) حسب ما ذكره القفطي، علي بن يوسف، المتوفى سنة 624 للهجرة، في مصنفه (إنباه الرواة على أنباه النحاة).

ومن الأعرابيات اللغويات المنقول عنهن، شماء، ويشار إليها بأنها من بني كلاب، ولدى النقل من لسانها يقال: "أنشدتني شماء، وهي أعرابية فصيحة من بني كلاب".

وزهراء الأعرابية، أخذ عنها الرواة، وتنسب إلى بني كلاب هي الأخرى. وكانت تقول الشعر وترويه. ويورد (إنباه الرواة) اسم جزلة الحُرقية، واسم عتبة أم الحمارس. وكل من يرد من الأعرابيات، في رواية العربية، لا يكون تحت تصنيف (أئمة اللغة) أو أئمة الرواية، فلقد تم قصر تلك الألقاب على الرواة الرجال، وحسب. مع الإشارة إلى أن بعض "أئمة" اللغة، كالمبرّد صاحب (الكامل) كان ينقل عن أعرابية هي أم الهيثم، ويصفها بأنها من "أَنصح" من رأى، وعلى الرغم مما تتمتع به من صفات أقر بها، إلا أنه لم يدرجها لا هو ولا غيره، في خانة "أئمة" النقل الأدبي أو المرويات اللغوية التي ساهمت بحفظ لغة العرب من الضياع.