خبر

مُعجزة في حياته وأسطورة في استشهاده!

ماذا يمكن أن يفكّر شخص مثلي، اكتشف رجلاً (أُعجب به حيّاً ولم يعرفه شخصياً)

بعد رحيله؟ كيف يمكن أن يعوّض محدوديّة معرفته بحجمه بعد تراجيديا أشبه بالتراجيديات الإغريقية؟ كيف يحسّ شخص مثلي عندما يجد نفسه، يجمع ما يستطيع، من ملامح، وأحداث وقسمات، وأعمال، ومواقف، وخطط، وأفعال، لكي يعيد رسم شخصية، متعددة، أخصبها، ودفعَها شغف بلا حد، ولا التباس؟

عندما فُجّر الشهيد الرئيس رفيق الحريري، بطنٍّ وأكثر من المتفجرات، كأنّما صُدِع رأسي في الرابع عشر من شباط 2005. فجأة كان كائناً مكتظاً، بالحياة، والأحلام، والرؤى، ثم حُوّل عَدَماً. بعد ضوضاء الانفجار، وخرائبه، ساد صمت. كأنّه صمت النهايات. أو صمت الفاجعة. أو صمت عاصفة لم ترسل رعودها ولا بروقها ولا روائح هبوبها. لحظة بين المعجزة السوداء، والقدرية السادرة، وبين الأسئلة الغامضة، التي تقف أمامها، على حيرة، وتيهٍ، فلا تجد أجوبة، سوى ما يهتز في أوصالك من هزيمة، أو استسلام، أو صرخة لا تستطيع إدارك مداها. لحظة القتل، اللحظة التي يغدر بها أرهاط، ليحققوا القتل، كفعل وجود لهم، أو إثبات سلطة.

لم أكن أعرف لحظة الانفجار في ظهيرة يوم صامت كغيومه الرمادية، وأمطاره المحبوسة، في سماء غامضة، وكأنّها جاهلة هول ما يجري تحتها. سماء شباط خبيثة ومفاجئة، وغادرة، وجاحدة. كل شيء عادي. كأنّها شتاء بلا شتاء. أو سماء بلا سماء، أو طرقات أُعدّت بعناية عتمةِ القتَلَة، لتهزّ كل هذه السرائر، والانتظارات، والتخوّفات. بل كأنّ الطرقات، من مقهى «الاتوال» إلى عديد أمتار، تواطأت، بسهولتها، وأفخاخها، وفراغها، وعرائها، بلا شهود سوى ما تتكهّنه النيّات والإشارات، لتصبح مكاناً آخر، بمعانٍ جديدة. وبدم جديد. وبأسماء مفتوحة على مصائرها، هناك، اغتيل رفيق الحريري. دفعت الأمكنة ثمن أخطائها. وارتقت على مسارحها تراجيديا العصر.

أهكذا، وبهذا اليُسر (الأسود)، يُقتل رجل حوّل كلّ ما حوله شموساً، وآمالاً، وجمالاً، وأحلاماً؟ كأنّه كان معجزة في حياته، وأسطورة بعد مماته. أسطورة الخروج من الموت، ومن الحروب، ومن الركام، ومن التمزّق، والدماء، والكراهية والخوف. أسطورة رؤيا لم تعد تتّسع لها تلك الأمكنة: أعظم من أن تصدّق، وأرحب من أن تُوارى. أفي بيروت، وبالذات في بيروت، يُقتل صانعها لأنّه صنعَها، ويُمحى مهندسها لأنّه رسم أبوابها ونوافذها وألوانها ودُورها وطرقاتها، وبياضها الجديد؟ فلتكن هذه الدُور التي رفعَها قبره! أف! يا لسواد الجحود. (وكل قتل جَحود بالكائن وبالمكان) ألأنّه، رفع حطام مدينة وصل إلى السماء، بخرائبه، وأمواته، وفراغه، يدفن بحطام أفعاله؟ أنّها مُتعة القتَلَة. إنّها سرائر القابعين في العتمة، يرسمون خرائط الخراب. رجل بحجم مُدنٍ، هكذا، يوارى طريقاً، هي من أملاس أصابعه، وبريق عينيه، وحُنوِّ يديه؟ خاطر «بالمحرّم». وجابه «الممنوع». وعصَى «آلهة» الشر، المتربّعين في أوكارهم الظَلَامية، أو في قصورهم التي ارتفعت حجارتها على الدم.

لبنان: هو الممنوع عليه. لبنان الجوهرة مسروق ومحظور عليه مسح غبار المجرمين عنها، الأوصياء المفروضين والفارضين، رُسُل العُنف، ومهاوي الاستبداد، ومَساري الغربان.

أتريد لبنان؟

«أَتُريد لبنان؟ ومن قال إن لبنان لك، ولأهله، ولأسلافه ولأولاده، ولتاريخه؟ تريد تحريك عجلَة الوصول إلى حيث هَلَك مَن حرّكها قبلك. أتقول «لا»، وفي فضائنا الحالك لا نعرف سوى «النعم». أتريد أن تجمع ما قسّمناه في الحروب، وشرذمناه في القتل، وتعيد وصل الوشائج، التي قطّعناها، طوائف، ومذاهب وكانتونات، وإمارات؟ أتتكلم عن شعب لبناني واحد ونحن جعلناه شعوباً من المصادفات، لا يقرّب بينها سوى الدّم. واليأس. والذل؟ «أَسِيادَة» تريد بعدما جعلنا بلدك أسواقاً للعبيد، والخضوع، ومأوىً لمطأطئي الرؤوس، ومُفرغي النفوس، ومجموعات من عملاء، نحرّكها «بوطنيّة» عاليةَ أبلغ من العمالة؟»

تعليم الشباب
«أَتُريد تعليم الشباب؟ أتُريد تكوين جيش من المثقّفين، والمتعلّمين، ونحن نكوّن جيوشاً من شباب منذورين للتطرّف، والجهالة، طوع أيدينا، لا إرادة لهم، كالروبوتات، ولا وُجهة سوى ما نحدّده وما نأمر به، وما نضعه من خرائط وحروب، ورعب، ونَواهٍ؟. ولمَ تريد هذا الجيش المحكوم بالمعرفة؟ أَلتزيين مُدنك، أم للمشاركة في صنع بلدٍ ميؤوسة قيامته؟ أقيامةَ لبنان، تريد؟ انبعاثَ دولة قوية؟ مؤسسات. جامعاتٍ. مدارسَ. مستشفيات. وسطاً قلّ نظيره في مدننا؟ بيروت الساحرة انتهت، وتريد استعادة سحرها؟ ونحن، ماذا تريد منا أن نفعل: أن نتركك تفعل ما يُقصينا، وما ينهي وصاياتنا، وأدوارَنا، واستبدادنا، وميليشياتنا، وكانتوناتنا، وارتهاناتنا، و«مجدنا» الأبدي؟»

آلهة الأولمب
إنها «آلهة» الأولمب، قد تجدها في أنفاقها، أو على سطوح قصورها، ومن يتحدَ الآلهة تسحقْه الآلهة، تدمّره. إنها الخطوط السموية ومن هنا من لدُن «المرشدين»، وهناك من حاكم شعب لم يكن شعبه مرّة واحدة، ولا رصيده؟ فأنتَ ومَن معك يا رفيق الحريري، لستم «أغلى» على قلوبنا من حماة وحمص والجولان، دمّرنا حماة وحمص، واغتلنا الجولان، وسلّمناه جثة لإسرائيل! فهاك وجودَك. وهاك نِعَمك. وأعمالك... وهاك المتفجّرة الكبرى التي استخدمت في لبنان، لتفجّرك، ولترميك أشلاءً حيث بدأت «أحلامك» ورؤاك. وهل تظنّ أنّ شعبك هذا الذي ظنَنْت أنّك فعلت له ما لم يفعله أحدٌ، سيحرّك ساكناً؟ قتلنا جنبلاط ولم يحدث شيء. نفينا ريمون ادّه ولم يحدث شيء. ومسحنا أثر المفتي خالد، وحسين مروة، والشيخ صبحي الصالح ورينيه معوّض، ولم يحدث شيء. وهذا ما كان وسيكون: سينفّذون ما سيقوله إميل لحود: نظّفوا الطريق من أدوات الجريمة، واسحبوها، وما عليكم أيها اللبنانيون سوى أن تعودوا إلى أعمالكم. إنها مجرد «رذالة» ارتُكبت بحقّك! مجرّد «مزحة» بعثية - إيرانية، مزحة خفيفة، عندما تمّت أثارت فينا القهقهات. «الفريسة السهلة» وكنت... الفريسة.

هكذا تفكّر قتَلَة الحريري: الشعب اللبناني اعتاد عضّ جروحه. كفكفة دموعه. ثمّ، كلٌّ إلى سبيلِه وإلى أوطاره.

صمت الشهيد
لكن الحريري، لم يصمت في قبره. سال دمه في الليل والنهار وترقرق في الشوارع، وعلى السطوح، وداخل البيوت، وقَطَر في العيون، وأرّق الجفون، من أقصى بيروت إلى طرابلس، إلى الشمال والبقاع، والعالم كلّه. لم يجفّ دمه. الحرائق التي أشعلها القَتَلَة، طلعت من رمادها، وتحوّلت مشاعلَ والطرقات التي دمّروها، أمّلسَت كالسهول أمام الجموع. إنها اللحظة الأخرى التي مات فيها الحريري ولم يمت.

لم يكن عابرَ سبيل... ولا خطأً تاريخياً. أو مصادفةً بلا أثر. فها هو وقفَ بين الجموع، وصرَخَ بظلاله، وأصواته الكثرى: إنّها لحظتك أيها الشعب اللبناني. يا شعبي الرائع ويا حبيبي. إنها لحظتكم لتستعيدوا بلدكم الحبيب. إنها لحظتكم لتنتزعوا سيادتكم، واستقلالكم، وحرّياتكم. وأنا في قلوبكم. في أيديكم التي سترفعونها، وأصواتكم التي ستطلقونها، وأنفاسكم التي ستملأ الفضاء. لحظة القيامة. فتقدموا معي! املأوا الشوارع. ثوروا. لكن بلا عنف. ولا حروب. ولا متاريس. ولا كراهية. اقلبوا هؤلاء بسلاحكم الأمضى: الديموقراطية، الناس، لتبنوا دولة هي دولتكم، وجمهورية هي جمهوريّتكم، وتاريخاً لا يصنعه الآخرون لكم، وإرادة لا يتحكم بها أحدٌ سواكم...

من 14 شباط...
14 شباط... أنجبَ 8 آذار «العار»، صباح العملاء المظلم والجاني والمرتزقة. كانت لحظة احتفال القتلَة بمقاتلهم. جموع كثيرة هتفت للوصايات. «شكراً.. شكراً»، لكن، شكراً على ماذا؟ على رحيلهم، أم على نجاح اغتيالهم. وصُوّرت كأنّها تظاهرة لم ولن يعرف لبنان مثيلاً لها. لكن 14 شباط، تحوّلت بعد أسبوع إلى 14 آذار، المعجزة الشعبية تحقّقت. نزل لبنان إلى الشوارع. إنّها أول ثورة سلمية في تاريخ المنطقة ثانية نهضة استقلالية. مليون و200 ألف أمّوا، شيوخاً، وشباباً، وأولاداً، ونساءً ورجالاً... إلى قلب بيروت. إلى الأمكنة التي صنعَها الحريري. إلى شوارع الحرّية، إلى حيث دُفن. وحيث دُفن صارَ الموعد المنتظر للحياة. لحياة لبنان بعدما كاد يُحوّل جُثة. استعاد الناس أصواتهم. استعادت الشوارع حرّيتها. استعاد الناس إرادتهم، وأجسامهم، وأحلامهم، ومستقبلهم! إنّهم يمشون قرب ضريح الحريري، وكأنّهم يمشون إلى أحلامهم.

كيف يصبح الضريح، المزدان بالورود، شعوباً من الآتين من كل صوب. كيف يتحول صمته إلى سماء تضجّ بالرعود والصراخ، والهتافات؟ للمرّة الأولى يرتفع علم لبنان، منذ عقود، ليكون علم الناس، بألوان الناس، بقسمات الحريري، يخفق بقلبه، ينبض بصدره. كان العَلَم ميتاً وقام... ما أجمل أن يرتفع علم يستمدّ ألوانه من ورود ضريح جاثم فيه الحريري، ورفاقه. إنها الشهادة المعلنة. إنها الشهادة التي قادت الجموع إلى حيث ينتظرها الحريري، وتحمل من قرع خطاه في شوارع بيروت، ومن أصواته في اللقاءات، ومن وداعه الأخير في مقهى «الاتوال»، ومن يديه وهما ترتفعان للمرّة الأخيرة، ومن ابتسامته وهي تُهدى لأصحابه.

إنه الآتي يأتي. وما أروعه. إنها الشوارع تغتسل بدموع الوافدين. المطار يغتسل بأنفاس الوافدين. الجامعة اللبنانية الموحدة تغتسل بعقول طلابها. إنّهم الفقراء يغتسلون بأرماقهم. إنها الأتوسترادات تحتفل بمركباتها وناسها. إنّهم الـ40 ألفاً الذين تعلّموا يرسلون تحياتهم. إنّهم الخارجون على العروبة يعودون إلى ديارهم العروبية. إنها المشكّكون بلبنانيّتهم يهتفون «لبنان أولاً» «لبنان أولاً». إنّهم المفجوعون باغتياله يصرخون «الحقيقة» «الحقيقة» «العدالة» «العدالة»،... إنّها العودات الملحمية طلعت من عمق الفواجع والتراجيديات.

ظنون القَتَلَة
وعندما اغتبط القتلة بظنّهم أن ليس هناك مَن يرث الحريري، في القيادة، وفي إكمال الطريق الوعر، وتحقيق الحلم، أنبثق ابنه، كمثال له، كشهادة له، كضمير جديد له: إنه سعد الحريري، الابن، والخليفة الميمون، مُكمّل المغامرة اللبنانية. ها هو سعد المُعمّد بدم والده، يختاره الناس ليكون حاملاً للإرث والعهد ولبنان أولاً، و«الاعتدال» ومشروع الدولة، والاقتصاد، والعلم، والمواجهة السلمية. وكما والده، أنكر كل وسائل القوة؛ رفض الحروب التي يمكن أن تهدم ما بنى والده. رفض أن يعود عصر الميليشيات، وخطوط التماس، والخطف على الهوية، والكانتونات المذهبية... أنا ابن والدي. أنا ابن السلم الأهلي. والأمن. وإكمال وصل ما انقطع.

يقول ذلك، ليحقق ما أوصى به والده. إياك والمذهبية. والتطرّف. وإيقاعك في فخ العنف، فلتكن لغة العنف لغتهم. وهل يمتلكون سواها؟ إياك وثقافة الكراهية التي فبركها أعداء لبنان في مصانعهم. إياك ونسيان الفقراء فهم أبنائي مثلك تماماً. أنا ضحّيت بحياتي لكي لا أضحّي بأي لبناني، أو بأي حق لبناني. فلتكمن أنت المدافع عن لبنانك، الذي عشقته وتعبّدته بعد ربّي! إلعب لعبة السياسة، لا القطع. لعبة الحوار لا المونولوج. كل شيء قابل للحوار. أورثتك صبري، فعانقه في عملك. «لبنان أولاً» نعم! لكن لبنان العروبة. ولبنان الأفق العالمي. ولبنان الاستثنائي بحرية بنيه... لبنان المنفتح على الحداثة والعصر.

ورث سعد الحريري ما كوّن سيماء والده. وها هو رئيس الحكومة أوّل مرة، يُعيد آمالاً إلى لبنان. وها هو يكاد يلقى مصير والده، فيسافر لكي لا يترك لبنان وحده. وها هو أخيراً يتعرّض لسهام الأقرباء والحلفاء، ولخيانتهم... وها هو يتجدّد وها هو يخترق قلوب اللبنانيين كلهم، عندما أبى أن يجعل شبابهم وقوداً للحروب. عندما قال «لا» من أجل لبنان... التفّ لبنان كلّه حوله.

سعد الحريري، اليوم، كوالده أمس، يحمل الأمانة الصعبة في عنقه. يحملها، ويجنّب لبنان الأخطار التي تعانيها شعوب الجوار، بسياسة النأي، والتزام الحدود؛ والدفاع عن عروبة لبنان. وها هو جيش لبنان، وأدواته الأمنية، يحقّقان الانتصارات على الإرهاب...

الإرهاب قتَلَ والده... لكن معاذ أن يكون له قتل لبنان!

الوديعة حيّة. والأمانة في العقل والقلب.

إنه الإرث الصعب بين اليدين السخيّتَين.

بول شاوول

عناوين داخلية

* أفي بيروت بالذات، يُقتل صانعها لأنّه صنَعَها؟

*خاطر «بالمحرم»، وتمرّد على آلهة الشر:

لبنان هو المحرّم عليه...

* أتتكلّم عن شعب لبنان واحد

ونحن جعلناه شعوباً من المصادفات؟

* الحرائق التي أشعلها القَتَلَة

تحوّلت مشاعل

* صباح العملاء الأسود كان 8 آذار

* الخارجون على العروبة يتصالحون معها،

والمشكّكون بلبنانيّتهم يهتفون

"لبنان أوّلاً"

*ها هو ابنه سعد، المعمّد بدم والده

يختاره الشعب ليحمل الإرث والعهد

بول شاوول - المستقبل