كتب منير الربيع في “المدن”:
في لبنان، هناك من يخاف من سوريا. وفي سوريا، هناك من يخاف من لبنان. على الساحة اللبنانية، من يعتقد أو يراهن على أن الرئيس السوري أحمد الشرع لن يصمد في الحكم، وأن ظروفاً وأحداثاً أو تحركات شعبية وعسكرية ستسقطه، وبالحد الأدنى، يتجه “ظنّ” بعض اللبنانيين نحو استمرار حالة انعدام الاستقرار على الأراضي السورية وعدم القدرة على إعادة تثبيت النظام المركزي. ويندفع هذا الظنّ أكثر بدوافع بعض الأمنيات، أن لا تكون سوريا دولة مركزية تستعيد قوتها كي لا تقوى على التدخل بلبنان وإعادة التأثير والتحكم فيه. هنا ينقسم اللبنانيون بين آراء متعددة، من يقتنع بأن مرحلة الاستحكام السوري بلبنان قد انتهت ولا إمكانية لعودتها، وبين من تبقى هواجسه قائمة، وجهات أخرى يمكنها تسويق هذا التصور للاستثمار به سياسياً على المستوى الداخلي انطلاقاً من حسابات شعبوية.
الطابع السنّي
دوافع التخويف كثيرة، فهي المرة الأولى التي تأخذ فيها سوريا طابعاً سنياً، ويصورها البعض كامتداد لتجربة تركيا مع رجب طيب أردوغان. كما يستند هؤلاء في تخويفهم إلى تاريخ وتجربة أحمد الشرع في مراحل تنقله من جبهة النصرة إلى هيئة تحرير الشام، وما بينهما من مواجهات وقعت بين الجبهة والجيش اللبناني من جهة، وبينها وبين حزب الله من جهة أخرى. وتتداخل عوامل كثيرة في الدفع نحو هذا الخوف أو التخويف، بعضها يأخذ طابعاً شخصياً، أو يأتي مبنياً على انطباعات وأحكام أطلقت سابقاً، ولا يُترك مجال لإعادة النظر بها بناء على التجربة. وهذا ربما ينعكس على آلية مواكبة معالجة الملفات العالقة بين البلدين، كما أن ثمة جانباً نفسياً لا يمكن إنكاره، وهو التعاطي مع السلطة الجديدة في سوريا انطلاقاً من ذهنية التعاطي مع نظام آل الأسد، وهذه حالة لن يكون من السهل الخروج منها.
الموقوفون والمفقودون
لدى دمشق مخاوف من لبنان أيضاً. فهي تعتبر أن هناك اختلافات لبنانية في مقاربة الملف السوري وكيفية معالجة الملفات العالقة، وخصوصاً ما يتعلق بملف الموقوفين. ومنذ الأيام الأولى للتفاوض المباشر وتشكيل اللجان، أمِلت دمشق أن لا تطول اللقاءات للوصول إلى اتفاق، وقد عقدت بعدها اجتماعات كثيرة بين بيروت ودمشق، لكنها لم تؤد إلى النتيجة المرجوة سورياً، ذلك شكل التباساً لدى المسؤولين السوريين، الذين اعتبروا أن لا رغبة جدية للبنان بطي الصفحة الماضية، خصوصاً عندما جرى طرح فكرة لبنانية فهمتها سوريا بأنها محاولة للمقايضة بين المعتقلين السوريين في لبنان، والمفقودين اللبنانيين في سوريا أو المتهمين بجرائم بحق شخصيات لبنانية وتواروا على الأراضي السورية بحماية نظام الأسد، علماً أن السلطة الجديدة أبلغت اللبنانيين بأنها لم تتمكن من الحصول على أي معلومات بشأن هؤلاء المطلوبين.
“أسديون” في لبنان
تبلغ المخاوف السورية مرحلة أبعد، خصوصاً بالنظر إلى الكثير من الأنشطة السياسية التي شهدها لبنان في مراحل سابقة، واجتماعات عقدت بين شخصيات من قوات سوريا الديمقراطية، وشخصيات درزية معارضة للشرع، وشخصيات محسوبة على نظام الأسد، إلى جانب محاولات كثيرة حصلت مع بعض السفارات الغربية تحت شعار “حماية الأقليات” في سوريا. وهو ما لا ينفصل عن المعلومات التي تمتلكها دمشق حول وجود آلاف الضباط من الجيش السوري التابع للأسد ومن قوات النخبة والفرقة الرابعة يقيمون على الأراضي اللبنانيون ويحظون بحماية ورعاية، إضافة إلى معلومات تتحدث عن تواصل بين هؤلاء الضباط وكبار الضباط “الأسديين” الموجودين في موسكو، حتى أن بعض المعلومات تحدثت عن زيارات أجراها ضباط سوريون يقيمون في روسيا إلى لبنان للقاء ضباط الفرقة الرابعة والتنسيق معهم تحضيراً لأي تحرك يمكن أن يجري في الساحل السوري. وقبل أشهر وبالتزامن مع أحداث الساحل السوري، راجت سيناريوهات كثيرة حول إمكانية تحرك هؤلاء الضباط من لبنان باتجاه محافظة حمص أو الساحل، كما أن سيناريوهات أخرى جرى التداول بها باحتمال حصول تحركات متزامنة بين الساحل السوري، السويداء، وشمال شرق سوريا ضد السلطة الحالية وفي محاولة لإسقاط الشرع.
سيناريوهات مقلقة
كل هذه السيناريوهات لا تزال تقلق دمشق، وهي تبحث مع المسؤولين اللبنانيين في ضرورة ضبط الوضع داخل لبنان، ومنع المحسوبين على النظام السابق من القيام بأي تحركات أو تدريبات من شأنها أن تضر بالأمن السوري. كل ذلك ينبع من انعدام حالة الثقة بين البلدين، وسط استمرار المساعي لبنائها، كما أن ذلك ينتج عن استمرار وجود خلافات وصراعات جوهرية داخل سوريا بين مختلف المكونات. في السياق، ووفق المعلومات، فإن سوريا تسعى إلى ترتيب مصالحات واتفاقات سياسية شاملة وجامعة مع الجميع. وجاء استقبال الشرع قبل أيام لوفد من وجهاء الساحل السوري، مع استمرار المساعي لتفكيك حالة الاستعصاء في السويداء، والأهم هو تطبيق اتفاق 10 آذار بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية، وسط تضارب المعلومات حول إمكانية تحقيق تقدم لتطبيق الاتفاق أو استمرار الانسداد والاتجاه نحو مواجهة عسكرية.
اتفاق مع روسيا
بالنسبة إلى دمشق فإن الوصول إلى حلّ مع قوات سوريا الديمقراطية سيسهم في تفكيك كل العقد المستعصية الأخرى، خصوصاً أن قسد تحظى بدعم دولي كبير بخلاف السويداء أو الساحل، ففي الساحل وعلى الرغم من وجود حالة اعتراضية، هناك تضارب في اتجاهاتها بين الشيخ غزال غزال من جهة، ورامي مخلوف من جهة أخرى، وضباط آخرين ككمال الحسن وكفاح ملحم، علماً أن دمشق دخلت في اتفاق مع روسيا حول ضبط الوضع في الساحل السوري، ما يعني أن موسكو لن تفسح المجال أمام مثل هذه التحركات التي تزعزع وضع دمشق.
حذارِ إسرائيل
فوق كل هذه التطورات والتصورات، يبقى لبنان وسوريا محكومين بالعلاقة الترابطية بينهما. الأفضل بالنسبة إليهما، الحفاظ على الكيانين بحدودهما ومكوناتهما وتنوعهما، بعيداً عن أي صراعات أو طموحات أو مخاوف، لا سيما أن الدخول في صراع سيكون الطرف الأكثر استفادة منه هو إسرائيل، التي ستسعى إلى استغلال أي صراع داخلي بين المكونات للاستثمار به، بناء لمشروع تل أبيب في تشظية المجتمعات، وصولاً إلى تقسيمها على أسس عرقية، قومية، طائفية أو مذهبية.
أخبار متعلقة :