كتب علي زين الدين في “الشرق الاوسط”:
حذر مسؤول كبير في القطاع المالي من خطر تراكم التداعيات النقدية والمالية وتضخيم فجوة الخسائر المحقّقة، والناشئة عن ازدواجية صريحة في منهجية تعامل الدولة مع حاكمية البنك المركزي والجهاز المصرفي، في وقت تبلغ فيه المحادثات مع إدارة صندوق النقد الدولي محطة حاسمة يرتقب أن تتبلور في ضوئها إمكانية التعجيل بعقد اتفاقية تمويل ترتكز إلى طرح الحكومة لخطة التعافي وإنجاز إصدار القوانين التحضيرية من قبل مجلس النواب، لا سيما قانون تقييد الرساميل (كابيتال كونترول).
وتشي المعطيات المتتالية وذات الصلة بالقطاع المالي، بتناقض صريح في وجهتها ومآلاتها. فمن جهة تلح الحكومة على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على التزام تغطية الاحتياجات المالية بالدولار لضمان انسياب استيراد المشتقات النفطية وتلبية مصاريف ضرورية خاصة بمؤسسة الكهرباء، ودعته شخصياً للمشاركة في جانب من اجتماع مجلس الوزراء منتصف الأسبوع المقبل لهذه الغاية. ومن جهة مقابلة، يتم استدعاء سلامة ضمن مسلسل المواجهة القضائية المتواصلة، للتحقيق معه يوم الخميس المقبل، بجرم «الإثراء غير المشروع وتبييض (غسل) الأموال».
وليس خافياً، بحسب المسؤول المالي، أن التباين السياسي القائم يتعدى البعد القضائي الذي يمثل واقعياً قمة «جبل الجليد»، ليبلغ مستوى استمرار سلامة في موقعه، حيث يجري الجهر برغبة رئيس الجمهورية وفريقه السياسي بإقالة الحاكم من منصبه، لكن هذا التوجه يصطدم تكراراً برفض وممانعة أطراف سياسية فاعلة، وهو ما عبّر عنه صراحة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، برفع شعار «خلال الحرب لا يمكن تغيير الضباط»، علماً بأن هذه المواجهة بلغت أوجها خلال عهد الحكومة السابقة برئاسة حسان دياب، الذي خاض مواجهات متكررة مع سلامة وطالب بإقالته من منصبه.
وضمن هذه المعمعة، يمضي الحاكم في ممارسة مهامه بمعزل عن المواجهات المعلنة والمستترة. وبرز في السياق دخوله المباشر أمس، ورغم مصادفة عطلة رسمية، على خط أزمة المحروقات المستجدة، مخصصاً الشركات المستوردة لمادة البنزين باستبدال السيولة النقدية بالليرة المتراكمة لديها أو المتسلمة من أصحاب المحطات، بسعر ثابت للدولار الأميركي يبلغ 22.2 ألف ليرة لغاية مساء الثلاثاء المقبل. كما قرر أنه باستطاعة المصارف، بدءاً من مطلع الأسبوع المقبل، أن تبيع الليرة اللبنانية نقداً مقابل الدولار أو بالعكس على آخر سعر معتمد عبر منصة «صيرفة»، ومن دون تحديد سقف للكمية المتداولة. وهو ما أدى إلى تفاعل تلقائي في سوق المبادلات النقدية وانخفاض الدولار إلى نحو 24 ألف ليرة، بعدما لامس صباحاً مستوى 25.5 ألف ليرة.
ولا تختلف وجهة الوقائع كثيراً على الجبهة الثانية المفتوحة بمواجهة القطاع المصرفي. بل إن التصعيد القضائي بات ينذر، وفقاً للمسؤول، بردود فعل أقسى من قبل الجهاز المصرفي أو البنوك المستهدفة بالحد الأدنى، حيث يجري التداول في الاجتماعات والصالونات المصرفية باحتمال مقاضاة الدولة لدى محاكم محلية أو خارجية، علماً بأن المصارف تملك حق رفع شكوى لدى محاكم أميركية وفقاً للعقود المبرمة، على خلفية امتناع الدولة عن دفع مستحقات سندات الدين الدولية منذ شهر آذار من عام 2020، وما أحدثه هذا القرار من خسائر لحاملي السندات وأضرار تبعية لحقت بالمودعين في البنوك اللبنانية، فضلاً عن تكرار إضراب اليومين التحذيريّين الذي تم تنفيذه مطلع الأسبوع الحالي.
وتتوافق هذه المعلومات مع تلميحات الوزيرة السابقة، ورئيسة مجلس إدارة بنك «ميد»، ريّا الحسن بأنّ القطاع المصرفي يفكر جدياً برفع دعوى قضائية ضد الدولة وإجراءاتها بحق المصارف. وأكدت في مقابلة تلفزيونية أنّ «الإجراءات التي تتّخذ بحقّ القطاع المصرفي اليوم هي بمثابة القضاء على القطاع وهي كابيتال كونترول قضائيّ». سائلةً: «ما ذنب المصارف وحدها إذا صُرفت أموال المودعين من قِبل الدولة؟ ولماذا صك البراءة لجميع النواب والوزراء الذين صرفوا الأموال؟ ومَن يتهجّم على المصارف ألم يلاحظوا الـ50 مليار دولار التي هُدرت على الكهرباء؟».
وعقب توجيه جمعية المصارف، عبر محاميها أكرم عزوري، كتاباً مفتوحاً إلى النائب العام التمييزي طالبت فيه بوقف تنفيذ قرار مدعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون الذي يمنع 6 بنوك من شحن الأموال النقدية إلى الخارج، أطلقت صرخة جديدة للمطالبة – قبل فوات الأوان وبعدها لن يفيد الندم – «بوضع حدّ لقرارات تنمّ عن قلة خبرة في النشاط المصرفي ودوره في الاقتصاد الوطني وتجاهل كامل للقانون، وتضرّ أول ما تضرّ بالمودعين الذين لن يحصلوا على حقوقهم إذا انهارت المصارف وانهار البلد».
واذ لفت التساؤل الساخر إلى «أن صاحبة القرار ربما تظنّ أن الأوراق النقدية التي تشحنها المصارف إلى الخارج تذهب إلى جيوب رئيس و/أو أعضاء مجلس الإدارة، وأنهم يهرّبونها من أمام المودعين، وأن المصارف لا تمسك محاسبة، ولا تخضع للتدقيق ولا للجنة الرقابة، فقد صنّفت الجمعية القرار ضمن سلسلة القرارات التعسفية التي اتخذتها القاضية عون بحق المصارف خارج صلاحياتها ودون استنادها إلى أي قاعدة قانونية». وبيّنت في بيان لها، أن الأوراق النقدية بالعملات الأجنبية التي تشحنها المصارف الستة المستهدفة تشكل 60 في المائة من إجمالي تحويلات القطاع. وهي مخصصة لتغذية حساباتها في الخارج، ما يسمح لها بتنفيذ التزاماتها، خصوصاً تلك الناتجة عن فتح الاعتمادات للاستيراد.
وفي البعد القانوني، ركز محامي الجمعية على وصف القرار بأنه «تجاوز حد السلطة لأن القانون لا يمنح النائب العام صلاحية الحد من حرية شحن الأموال النقدية من قبل المصارف والشركات المرخص لها بإجراء هذا النشاط ولا اتخاذ أي تدبير فيه تعدٍ على الأموال وحرية نقلها وتحويلها. كما أن هذا التدبير يمس بصميم العمل المصرفي وتغير مبدأ حرية تحويل الأموال وحرية التجارة الذي يعتمده لبنان منذ تأسيسه، وهو تدبير يدخل حصراً في صلاحية السلطة التشريعية. إضافة إلى أن هذا التدبير سيسهم في زيادة تدهور سعر صرف الليرة تجاه الدولار، ويعزل المصارف اللبنانية عن مراسليها ويقضي على ما تبقى من ثقة في القطاع المصرفي».