كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
من المثير أن يكتشف «ثوار 17 تشرين» و»الحراك المدني» وفي شكل متأخّر، أنّهم على وشك الخسارة في الانتخابات. لكن الأكثر إثارة هو أنّهم لم يبدِّلوا شيئاً في استعداداتهم للمعركة. وهذا يطرح أسئلة مُهمَّة حول ما يريده هؤلاء من خوض الانتخابات.
البعض في «معسكر» المعارضة والاعتراض يريد فقط تسجيل موقف. والبعض يريد الظهور لتلميع صورته الشخصية في مجال العلاقات العامة. ويقال إنّ البعض يريد فقط الاستفادة من المال الذي ربما يأتي من الخارج دعماً لحملات المعارضين. والبعض يريد مساومة الخصوم على حجز موقع سياسي. والأسوأ أنّ البعض دسَّت به أساساً قوى السلطة لـ»خردقة» صفوف المعارضة.
هناك نماذج من هؤلاء تتحرَّك اليوم في السياسة والإعلام بكثافة، تحضيراً للانتخابات، وتُظهِر الحماسة للانتصار على قوى السلطة. لكن الاستعراضات شيء والفوز في معركة الانتخابات شيء آخر.
يسلك «الثوار» في الانتخابات نهج الفشل الذي اعتمدوه في 17 تشرين الأول 2019، عندما هربوا من استحقاق البرنامج الموحَّد ولو بخطوطه العريضة والمرجعية الموحَّدة، ولو في إطارها الموسَّع. فلا يمكن مواجهة السلطة التي يقودها فريق سياسي يمتلك المال ويتحكّم بالمؤسسات والأجهزة والدستور والقوانين ويتمتع بدعم خارجي مفتوح، بمجموعةٍ تمارس «هواية الاعتراض»، ولا ترتكز إلى أي مستند قوة فعلي.
لم يجرؤ «الثوار» على توحيد أهدافهم السياسية، ولا سيما منها الموقف من «حزب الله» و»المقاومة» وسلطة الدولة على أرضها وقرار الحرب والسلم، وفضّلوا إرجاء موقفهم من «النظام» السياسي والطائفي والاجتماعي (مع نسفه كلياً أو تصحيحه؟) وهربوا من تحديد تموضع لبنان العربي والإقليمي والدولي، لأنّ بينهم مَن يميل إلى الغرب والخليج العربي، فيما بعضهم يفضّل الاتجاه شرقاً، عدا عن الاختلاف في النظرة إلى التسوية مع إسرائيل.
يقول بعض رموز 17 تشرين: الحرب بالنظارات سهلة. فكيف نجتمع على خطوط عريضة، وكل مِنا آتٍ إلى «الثورة» من بيئة سياسية وطائفية ومذهبية واجتماعية مختلفة؟ لقد كان حتمياً تأجيل هذه الخطوة إلى أن يتحقق لنا الانتصار.
لكن هذه الفرضية أثبتت فشلها. فالانتصار مستحيل من دون التوافق على الخطوط العريضة. وهكذا، على طريقة «البيضة أو الدجاجة» خسر المعترضون معركة 17 تشرين الأول 2019. ولأنّهم اليوم يكرّرون السلوك إيّاه في الانتخابات، فالنتائج ستكون إيّاها.
الصورة في «المعسكر» المعارض للسلطة هي الآتية:
1- قوى الاعتراض و»الثورة» والحراك المدني.
2- قوى «المعارضة» السياسية: المسيحيون («القوات اللبنانية» والكتائب وأحزاب أخرى)، السُنّة (من بيئة «المستقبل» وآخرون)، والدروز (الحزب التقدمي الاشتراكي).
الصورة داخل هذا «المعسكر» مدعاةٌ لاستغراب شديد: ففي كل صفّ يتناحر المرشحون في شكل بالغ الشراسة، وعلى طريقة «يا ربّ نفسي». ومثلهم يفعل الحزبيون في ما بينهم. وبين «الثوار» والحزبيين هناك جفاء أو عداء لا حدود لهما.
فغالبية «الثوار» يعتبرون أنّ كل البيئات الحزبية «موبوءة» وتجدر مقاطعتها. وليس مبالغاً فيه الظنّ أنّ بعض القوى السياسية المعارضة تفضِّل التعاون انتخابياً على بعض قوى السلطة من التعاون مع الحلفاء المفترضين في المعارضة.
هذا الواقع تستغله قوى السلطة تماماً. ولذلك، هي مقبلة على انتخابات مريحة في 15 أيار. وهي تتلقّى في كل لحظة تقارير مفصّلة، من ماكينات وأجهزة مجرَّبة ومحترفة، عن واقع التشرذم في صفوف القوى التي كان مفترضاً أنّها ستواجهها. وفي أي حال، هي كانت مستعدّة لتطيير الانتخابات لو أظهرت الأجواء حدّاً معيناً من الخطر عليها.
وفي الواقع، يَعتبر «الثنائي الشيعي» أنّ الفرصة مؤاتية لإجراء انتخابات تؤدي إلى تثبيت «الستاتيكو» القائم وتشريعه لـ4 سنوات مقبلة، بل لـ6 سنوات، لأنّ المجلس النيابي الجديد سينتخب رئيس الجمهورية المقبل.
داخل فريق السلطة، احتمال تأجيل الانتخابات وارد فقط عند «التيار الوطني الحرّ» الذي يفضِّل المساومة عليها وعدم التسرُّع في إجرائها، لا خوفاً من الخسارة، بل لضمان موقعه في الانتخابات الرئاسية أولاً.
إذاً، في اليوم التالي للعملية الانتخابية، ستكتشف قوى المعارضة والاعتراض بمختلف مسمياتها أنّها أضاعت فرصة ثمينة جداً ولن تتكرّر قبل 4 سنوات، وأنّها بتشرذمها قدَّمت البلد هديةً إلى السلطة، ومعها المَحاور الخارجية الداعمة. وهذا التنبيه تلقّاه جميع المعارضين والمعترضين طوال شهور مضت، ولكن أحداً منهم لم يبدّل سلوكه.
والطرح الوحيد الذي كان يمكن أن يمنح هذا «المعسكر» فرصة حقيقية لترجيح الكفّة، أو للتوازن مع قوى السلطة الحالية على الأقل، هو أن يتعلّم من درس الخسارة في «الثورة» وفي 14 آذار، ويسلك طريقاً معاكساً، أي أن يخوض معركة الانتخابات موحّداً وعلى مستوى الدوائر كلها.
يعني ذلك أن يتخلّى الجميع عن الشخصانية ويلتزموا خطوطاً عريضة واضحة في السياسة، ولو بدا ذلك صعباً جداً. فلا يمكن مواجهة معسكر سياسي موحَّد يتبنّى ثوابت سياسية معينة إلّا بالتزام ثوابت سياسية مقابلة. وهذا التأطير السياسي كان يمكن أن يحقق توازناً في القوى، ويزيد من نسبة المقترعين يوم 15 أيار.
أما وقد حصل ما حصل، ولم يعد هناك سوى أسبوع لإقفال الباب أمام اللوائح، فعلى الأرجح ستنتهي المعركة بانتصار القوى السياسية إيّاها. وبعد ذلك، ستكون المبادرة في يد الغالبية الحالية. فهي ستشرف على صوغ التسويات السياسية والمالية والاقتصادية الآتية، وستكون رؤيتها للمستقبل هي الغالبة في هذه المرحلة التأسيسية.
وسيكون الرهان: هل ستبدِّل الغالبية نهجها الحالي، الذي قاد البلد إلى الكارثة مالياً واقتصادياً وسياسياً وإدارياً، أم ستستفيد من التوازنات الإقليمية والدولية لتعيد الحياة إلى لبنان؟
إنّه استحقاق حسَّاس سيتقرَّر فيه الاتجاه الذي سيسلكه البلد. والأرجح، سيكون لبنان بعد الانتخابات، تحت سلطة المنظومة ذاتها، في أسوأ الحالات نسخة سيئة عن فنزويلا، وفي أفضل الحالات ستشفق علينا الدول وتنقذنا لنبقى على قيد الحياة لا أكثر، ولكن مقابل ارتهاننا لها سنوات وسنوات!