تشكلت حكومة لبنانية أخرى يمكن أن تطلق عليها تسمية “حكومة كلّ لبنان”، كما حال الحكومة التي شكلها الرئيس تقيّ الدين الصلح في العام 1973 في ظلّ نظام مختلف، نظام ما قبل الطائف. كان رئيس الجمهورية قادرا وقتذاك، قبل إقرار دستور الطائف، على فرض جزء كبير من خياراته على مجلس الوزراء. كما كان قادرا على لعب الدور الأوّل في تشكيل الحكومة آخذا في الاعتبار وجود أكثرية وأقلّية في مجلس النوّاب.
كانت لمجلس النوّاب مهمّة محددة تتمثّل في محاسبة الحكومة بدل أن تكون في داخل هذه الحكومة أكثرية، أو أقلّية، قادرة على التعطيل وليس على المحاسبة. ما حصل مع مرور الوقت ووجود السلاح غير الشرعي الذي فرض نفسه على دستور الطائف وعلى الحياة السياسية حلول التعطيل مكان المحاسبة وذلك في ظلّ إصرار حزب الله، ومن يقف خلفه في إيران، على تحويل لبنان جزءا من “محور الممانعة”.
لم يجر أي تطوير للحياة السياسية في ظلّ دستور الطائف الذي يوجد من يريد إزالته من الوجود للقضاء على أهمّ ما في هذا الدستور، أي المناصفة بين المسلمين والمسيحيين. هناك من يسعى إلى المثالثة. ليس اختراع صيغة “الثلث المعطّل” داخل الحكومة سوى خطوة على طريق بلوغ المثالثة بين الشيعة والسنّة والمسيحيين في يوم من الأيّام. من لديه الثلث “المعطّل” في الحكومة الجديدة هو حزب الله، بل لديه أكثر من هذا الثلث.
يعود سبب غياب أي تطوير للحياة السياسية في لبنان إلى عامل اسمه سلاح حزب الله الذي يظلّ المشكلة الأكبر في البلد. يقف هذا السلاح غير الشرعي عائقا أمام تحقيق أي إنجاز على أيّ صعيد، خصوصا بعدما صار الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، في داخل الحكومة.
ورثت الوصاية الإيرانية الوصاية السورية منذ العام 2005. بدل أن يكون الخروج السوري من لبنان فرصة كي يلتقط البلد أنفاسه بعد سنوات طويلة من الاحتلال، بل مما هو أسوأ من الاحتلال، إذا بالضربات تتوالى على اللبنانيين وصولا إلى القانون الانتخابي الأخير.
أنتج هذا القانون العجيب الغريب مجلسا للنوّاب سمح للجنرال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني بالقول إن إيران باتت تمتلك أكثرية نيابية في لبنان.
من الطبيعي في ضوء هذا التفسير الإيراني لنتائج الانتخابات النيابية أن تُفرض شروط تعجيزية على سعد الحريري الذي احتاج إلى ثمانية أشهر وأسبوع لتشكيل حكومة كان يمكن أن تكون أسوأ من ذلك بكثير لولا صبره الطويل وتمسّكه بمبادئ معيّنة جعلت منه الحصن الأخير في وجه الانهيار الكامل للمؤسسات اللبنانية.
شهد لبنان منذ نيسان 2005، لدى حصول الانسحاب العسكري والأمني السوري نتيجة اغتيال الرئيس رفيق الحريري سلسلة من الأحداث أفضت إلى قيام الحكومة الحالية التي يبقى التمثيل النسائي نقطة مضيئة فيها، خصوصا عندما يتعلّق الأمر بالشهيدة الحية الزميلة مي شدياق التي ترمز إلى الإصرار اللبناني على المقاومة وتسمية الأشياء بأسمائها بعيدا عن أي مواربة.
سيكون هناك تحد كبير أمام الحكومة الجديدة للرئيس سعد الحريري. هناك من دون شكّ نواة حكومية صالحة تستطيع أن تقدّم الكثير. هناك وزراء ينتمون إلى تيّار المستقبل يعرفون تماما ما الذي يشكو منه لبنان.
وهناك وزراء من “القوات اللبنانية” يمتلكون كفاءة ولا علاقة لهم بالفساد. لكن يبقى السؤال: هل مسموح للنواة الصالحة تحقيق أيّ إنجاز أم أن كلّ ما هو مطلوب تعطيل الحياة السياسية والاقتصادية كي يتمكن حزب الله من نشر البؤس بغية الوصول إلى أهدافه الحقيقية، في مقدّمها المثالثة؟
منذ حرب صيف العام 2006 التي افتعلها حزب الله ومنذ موجة الاغتيالات التي بدأت بمحاولة اغتيال مروان حمادة في الأول من تشرين الأوّل 2004 لم يتغيّر شيء. مطلوب إخضاع لبنان لا أكثر. إذا أخذنا في الاعتبار ما تعرّض له لبنان وما زال يتعرّض له منذ ما قبل اغتيال رفيق الحريري، نكتشف أنّ هناك قدرة كبيرة على الصمود والثبات لدى كثيرين من كل الطوائف اللبنانية، خصوصا بعدما صار حزب الله يتمتع بغطاء مسيحي من مجموعة كان يفترض، لولا أنّها لم تكن مجرّد مجموعة انتهازيين، أن تعرف جيدا ما الذي يريده الحزب وما الذي تريده إيران.
لا يعني تشكيل الحكومة أنّ متاعب لبنان خفّت. الخوف كلّ الخوف من أن يكون الهدف، من الإتيان بوزير سنّي تابع لحزب الله وآخر درزي لاستفزاز وليد جنبلاط، واضح كلّ الوضوح. يتمثل هذا الهدف بتطويق النواة الصالحة في الحكومة ومنعها من تحقيق أي إنجاز على أي صعيد، خصوصا في مجال المساعدات التي أقرّها مؤتمر “سيدر” الذي انعقد في باريس في العام الماضي وذلك قبل إجراء الانتخابات النيابية في السادس من أيّار – مايو من ذلك العام. فأي مساعدات سيحصل عليها لبنان بموجب “سيدر” مرتبطة بالإصلاحات والشفافية.
كيف يمكن الكلام عن إصلاحات وشفافية في بلد يعتبر فيه حزب مذهبي مسلّح ممثل في الحكومة أنّ دويلته أهمّ بكثير من الدولة اللبنانية وأنّه لا يحتاج إلى إذن من الدولة كي يقاتل في سوريا ويشارك في الحرب التي يتعرّض لها شعبها الباحث عن حد أدنى من الكرامة.
لا مفرّ من الاعتراف بأنّ الوضع اللبناني صعب وأن المعركة الجديدة هي داخل الحكومة حيث الحاجة أكثر من أيّ وقت إلى العمل الجدي. هناك حاجة إلى جدّية من أجل إنقاذ الاقتصاد المهترئ والسعي إلى تطوير البنية التحتية ومعالجة مشاكل السير والطرقات والكهرباء والماء والنفايات… في ظلّ وضع إقليمي في غاية التعقيد.
ما يعيشه الوطن الصغير حاليا نتيجة مباشرة للهجمة المستمرّة التي يتعرّض لها والتي أدت إلى جعل “حزب الله” ينتصر في حرب صيف العام 2006 على لبنان واللبنانيين ويستكمل انتصاره عن طريق الاعتصام في وسط بيروت لضرب الاقتصاد وتهجير أكبر عدد من اللبنانيين، خصوصا من المسيحيين.
جاءت غزوة بيروت والجبل في أيّار 2008 في السياق ذاته. هذا السياق الذي أوصل في نهاية المطاف إلى انتخابات السادس من أيّار – مايو 2018، وهي انتخابات سمحت للأمين العام لحزب الله حسن نصرالله بالكلام عن وجود “معايير” جديدة تُشكّل على أساسها الحكومات.
ما زال لبنان يقاوم. إلى متى يستطيع الاستمرار في هذه المقاومة في غياب من يدعم فعلا، عربيا ودوليا، النواة الصالحة في الحكومة التي على رأسها سعد الحريري؟
تعاطى رئيس مجلس الوزراء عندما كان رئيسا مكلفا مع الواقع كما هو. ابتعد أكثر ما يستطيع عن الأوهام. استطاع منع تشكيل حكومة من 32 وزيرا كي يحافظ على حد أدنى من التوازن داخل مجلس الوزراء الذي يخشى استخدامه للتعطيل بدل أن تكون الحكومة فريق عمل واحدا يمتلك برنامجا محددا تُحاسب عليه في مجلس النوّاب وليس في جلسات مجلس الوزراء!