كتب سامر زريق في “نداء الوطن”:
كما ذكرت “نداء الوطن”، لم يكن أمام “الملالي” ترف ممارسة استراتيجيتهم الأثيرة بالتسويف واستنزاف الوقت ريثما تنضج ظروف أفضل. حسب مصادر سياسية، كان على الطاولة ورقتان، هندسة جغرافية وديموغرافية تفصل الجنوب والشمال عن لبنان، وتضع الأول تحت ضغط التوسع الإسرائيلي، وتورّط الشيعة في نكبة كبرى تترى مؤشراتها، من تهجير قسري، وإنهاك بالاستهدافات اليومية، وإهلاك الموارد المالية.
وفوقها إشارات لضربة إسرائيلية أكثر إيلامًا ستظلّ حاضرة كأداة ضغط فعالة توظفها واشنطن كـ “عصا”. وثانية تقدّم من خلالها تنازلات كبيرة، وتمنح حزبها تكليفًا للقبول بشروط “الميكانيزم”، وفي طليعتها تفتيش المنازل، وتوثيق العمليات، بعدما كان الأمر خطًا أحمرَ محظورًا مسّه تحت طائلة وضع “فوج الأهالي” كدروع بشرية، كما حصل تكرارًا مع “اليونيفيل”.
كذلك أعطت طهران الضوء الأخضر للانتقال بعملية نزع السلاح إلى شمال الليطاني خلال كانون الثاني، ووافقت على دمغ خاتم “الحزب” على بيان رسمي يعلن فيه الخروج الكامل من جنوب الليطاني. لكن البيان لا يزال محلّ تجاذب بين التيارات المتصارعة، حيث يعتبر “الحرس الثوري” أنه في ظل الغطاء الممنوح لسحب السلاح لا داعي لدفع هذه الورقة، بغية الحفاظ على صورة “الحزب” القوي، وفتح بعض النوافذ لإبطاء المسار.
وبذا يصير “الحزب” أكثر شبهًا بحال نظام صدام حسين، حيث يجبه حصارًا يمهّد لإخضاعه عبر عمليات التفتيش، والتجريد من الأسلحة، مع استهدافات يومية، وغطاء مسيّرات أقرب لدور الحظر الجوي. في المقابل، حصل “الحزب” على دفعتين على الحساب. الأولى 90 مليون دولار محوّلة من الخزينة إلى “مجلس الجنوب”، رغم الاعتراضات القوية. والثانية قرض البنك الدولي بقيمة 250 مليون دولار. وكلاهما مخصّص لإعادة إعمار جزئية تشمل أساس البنيان، ويندرجان ضمن قاعدة “خطوة – خطوة”.
بالتوازي مع هذه التنازلات، ثمة صراع نفوذ كبير يدور في المنطقة بين تل أبيب وأنقرة بشكل رئيسي، ويرتسم تحالفان إقليميان كبيران على وقعه. يضمّ الأول إسرائيل، فرنسا، اليونان، قبرص، مصر، و”قسد”، ويحمل عنوان الدفاع عن الأقليات، وتسعى الأولى لتوظيفه كغطاء لجذب لبنان إليه بالارتكاز على صلاته التاريخية مع فرنسا، وتكوين جدار أمام النفوذ التركي، لكونها تريد الهيمنة الجيوسياسية الكاملة، وترفض الشراكة الجدية والندية مع أي طرف.
فيما الثاني يضمّ تركيا، السعودية، وسوريا، ويكتسي بطابع سني بارز. وإذا كانت ثمة دوائر تعاون مشترك بين التحالفين في بعض القضايا، ويتمتع كلاهما بعلاقات وثيقة مع واشنطن، إلا أن الأخيرة منحت أنقرة دورًا كبيرًا في المنطقة، وصولاً إلى القوقاز وآسيا الوسطى، بغطاء مباشر منها، لمعرفتها بأن تركيا لا تشكل مشروعًا إسلاميًا خالصًا في ظلّ تقدّم النزعة القومية على الإسلامية، ولقدرتها على تذويب نفوذ إيران والجماعات خارج الدولة.
ويندرج الاتفاق اللبناني – القبرصي، والمصري – الإسرائيلي، وتطوير التعاون بين إسرائيل واليونان وقبرص لمحاولة إحياء “منتدى غاز شرق المتوسط” ضمن هذا الصراع. وكذلك رفض سوريا وساطة فرنسا لترسيم الحدود مع لبنان، والاشتباكات التي حصلت في “حلب” بضغط إسرائيلي لتوجيه رسالة إلى أنقرة، ردّت عليها واشنطن بتصريحات تختزن رسالة مكثفة كشفت فيها عن تمرير إيران أسلحة لحزبها عبر “قسد”.
بموازاة انفتاح سعودي نسبي على لبنان لمنع نتنياهو من التفرّد به، أسهم في إعادة التقريب بين بعبدا ووشنطن، مع إعادة برمجة زيارة لقائد الجيش، والتحضير لزيارة لرئيس الجمهورية لن تحصل بدون دعم المملكة. عمليًا، تحاول إيران عبر التنازلات المتدرجة من غزة وسوريا إلى اليمن ولبنان، التموضع بين التحالفين للإفادة من الصراع وتناقضاته، لحماية نظامها أولًا، ولكسب هوامش نفوذ في الدول التي يعاد تشكيل أنظمتها وتوازناتها.



