لا يفهم كثيرًا الموفدون الدوليون الذين يزورون لبنان كيف يستطيع أبناء هذا البلد، وبالأخص أهل السياسة منهم، أن يتعايشوا مع الكذب طويلًا، من دون أدنى محاسبة، وبالتالي فإن أي مساعدة من الخارج، وبالتحديد بالنسبة إلى مشاريع "سيدر"، تبقى مرهونة بمدى صدقية أهل الحكم والشفافية المطلوبة، إذ لا يكفي إقرار موازنة يُقال إنها تقشفية، لأن الإصلاحات الواردة فيها لا تتناسب مع الظروف الصعبة التي يعيشها لبنان الرازح تحت ثقل خدمة الدين العام والهدر الموصوف، سواء في قطاع الكهرباء أو في مجال التوظيفات السياسية في الإدارات العامة.
ومن بين الأمور التي لم يقدر هؤلاء الموفدون على فهمها على سبيل المثال لا الحصر، هي كيف يستطيع السياسيون في لبنان جمع الزوجة والعشيقة في سرير واحد، أو كيف يمزجون الزيت بالماء في خلطة غريبة وعجيبة في إناء واحد، وهم يحاولون إقناع الناس بأن هذا الأمر المخالف للطبيعة قابل للتحقيق فقط في لبنان.
وما لم يقله هؤلاء الموفدون، الذين عادة يتحدّثون بلغة دبلوماسية، يقوله اللبنانيون، ولكن على طريقتهم، التي لا تخلو من التهكم والسخرية، لأن الأمور السائدة والطاغية قد خرجت عن جادة المنطق السليم، ومن بينها أن لا صداقة دائمة في السياسة، وكذلك لا عداوة أبدية. فالأسود قد يصبح أبيضَ، والأبيض أسودَ، وفق ما تمليه الظروف والمصالح، أي أن الغاية تبرر دائمًا الوسيلة، والضرورات تبيح المحظورات.
قد يكون هذا المنطق في الظروف العادية منطقيًا ومقبولًا إلى حدّ ما، مع ما فيه من تبريرات غير مقنعة في بعض الأحيان، لأن من يدافع عن هذه النظرية يقول إن العين بصيرة لكن اليد قصيرة، بإعتبار أن الأهم يتقدّم على المهم في سلم الأولويات لأن اللعب على حافة الإنهيار الإقتصادي غير مسموح، وأن المناورات السياسية لها أوقاتها، وبالتالي لا يجوز في أي شكل من الأشكال القبول بهزّ الإستقرار السياسي والأمني والإقتصادي، وهو حلقة في سلسلة مترابطة. فإذا أصاب الوهن حلقة من حلقاتها تصبح السلسلة معرّضة لشتى أنواع المخاطر، وهذا ما لا يسعى إليه أحد، أقله الذين يعتبرون أنفسهم " أم الصبي".